2011-03-18

حاكمة قرطاج - الحلقة 2: هكذا سطت عائلة الطرابلسي على أموال تونس

تعاظمت قوّة ليلى الطرابلسي خلال السنوات الأخيرة من حكم بن علي، بحيث إن سلطاتها فاقت تلك التي امتلكها رئيس الوزراء. هذا ما يشير إليه الكمّ الكبير من الرسائل والنصوص «السريّة» لتونسيين من العالمين بخفايا الأمور.

لقد حرصت ليلى على لعب دور سياسي حقيقي، ولو تراجعت عن ذلك «ظاهرياً» أحيانا. وجميع أولئك الذين عارضوها، ولو قليلا، جرى استبعادهم أو إزاحتهم تماما من المشهد السياسي التونسي.

لكن زيادة ثروتها وثروة عائلتها شكّلت أولويتها المطلقة. واستخدمت لذلك عددا من الأشخاص المعروفين، مثل عبد العزيز بن ضياء وعبدالوهاب عبدالله وهادي جيلاني، وغيرهم من ضباط أمن ومؤسسات أمنية، في مقدمتها وزارة الداخلية.

تبقى الشخصية الأكثر نفوذاً في عائلة الطرابلسي هي شقيق ليلى الأكبر بلحسن الذي انتقل من شخص مغمور إلى مصاف «نائب ملك تونس». 

«تمتلك ليلى طرابلسي سلطات حقيقية تفوق سلطات رئيس الوزراء. وتستطيع تشكيل الحكومة وإسقاطها وتعيين الوزراء وإقالتهم، وكذلك السفراء ورؤساء الشركات عندما يروق لها. وكذلك تستطيع زيادة ثراء أو إفقار، وسجن أو إطلاق سراح من تريد إذا قررت ذلك»، هذا ما ينقله مؤلفا هذا الكتاب عن رسالة من ثلاث صفحات حررتها مجموعة من التونسيين «من دون التوقيع بأسمائهم الصريحة» في ربيع عام ‬2009.

مثل تلك الرسائل «المجهولة» من قبل مقرّبين من النظام التونسي تكررت كثيرا على شبكات الانترنت. ويشير المؤلفان في هذا السياق إلى نصّ جرى تداوله سرّاً في تونس بربيع عام ‬2009 كتبته مجموعة من الاقتصاديين التونسيين رفيعي المستوى تحدّثوا فيه عن: «حدود وكلفة وهشاشة المستويات التي وصل إليها الاقتصاد التونسي»، وشجبوا فيه الفساد البنيوي للنظام التونسي.

وكان أولئك الاقتصاديون قد ترقبوا أسوأ التوقعات تشاؤما بقولهم: «إن الدولة، التي تتم مصادرتها واستخدامها من قبل مجموعات المافيا الجديدة في السلطة في ظل ليبرالية اقتصادية، مع غياب أيّة ديمقراطية في الحياة السياسية، وأيّة إمكانية للاحتجاج، ستواجه مشكلات خطيرة في ما يتعلّق بالشرعية».

الحركة في الظل

ويشرح المؤلفان كيف أن بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي خلقا سلطة تنفيذية موازية وخفيّة عبر اللجوء إلى القمع البوليسي والاعتماد على منطق الزبائن والدسائس السياسية. ولم تتردد ليلى في استخدام مختلف وسائل الإعلام التابعة للنظام من أجل «تدبيج» مقالات المديح لنشاطاتها بقصد إيجاد مكانة على المسرح الدولي أو العربي، بعد «نجاحها» على الصعيد الوطني التونسي.

لقد بدا واضحا للكثيرين أن ليلى الطرابلسي تريد أن تدير أمور البلاد في الظل. وينقل المؤلفان عن الصحافية التونسية سهام بن سدرين تأكيدها أن زوجة الرئيس حاولت خلال عامي ‬2004 و‬2005 احتلال مواقع تسمح لها بلعب دور سياسي قيادي. كتبت الصحافية على موقعها الإلكتروني: «لقد لاحظنا جميعا أن تلك التي يدعوها التونسيون بالرئيسة تحرص على إلقاء خطابات سياسية». وفي شهر اكتوبر من عام ‬2004 قامت ليلى بقراءة الخطاب الختامي لمرشح حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، أي زوجها الذي اكتفى بالتصفيق المتكرر لها.

إن جميع أولئك الذين أرادوا الوقوف في وجه صعود زوجة الرئيس خسروا مناصبهم بطريقة أو بأخرى. ولم تفعل أمام الاحتجاجات التي عرفتها الأجهزة الأمنية وداخل التجمّع الدستوري وأوساط المعارضة الشرعية للرئيس سوى أن تراجعت ظاهرياً، لتتابع لعب دور سياسي حقيقي، خاصّة بعد إنجابها لطفل ذكر عام ‬2005 حمل اسم محمد زين العابدين بن علي.

وللتدليل على قدرة ليلى الطرابلسي على إلحاق الأذى بمن يعارضها، يسرد المؤلفان حكاية مفادها أن محمد جيغام، رجل الثقة لدى الرئيس، الذي كان قد تولّى حقائب وزارية عديدة شملت وزارتي الدفاع والخارجية، وكان المستشار الخاص للرئيس، لم يكن بمنجاة من غضبها. إذ اعتقد في عام ‬2007 بأنه من المفيد لفت نظر الرئيس إلى أن عائلة الطرابلسي ذهبت بعيدا في الفساد والابتزاز. وكانت النتيجة أنه وجد نفسه «منفياً» كسفير في روما، قبل صدور قرار بنقله إلى بكين. رفض ذلك وفضّل الذهاب إلى التقاعد والتفرّغ للأعمال التجارية.

وبعد ‬17 عاما من الزواج، بدا أن ليلى غدت بعيدة عن الفترة التي كانت تلتقي فيها مع أفراد أسرتها في الصالون الأزرق بقصر قرطاج للتشاور حول الملكية التي ينبغي وضع اليد عليها. لقد أصبحت هي التي تقرر وحدها ذلك، حيث طلبت من مختلف الإدارات إبلاغها عن أي مشروع تبلغ قيمته أكثر من مليون دينار تونسي. وينقل المؤلفان عن صحافي تونسي قوله : «إذا أثارت عملية ما اهتمامها كانت هي التي تحدد من سيستفيد منها بين أفراد أسرتها. وبذلك أخذت دور العرّاب في نظام المافيا الذي قام في تونس».

رجال في الخدمة

من بين الذين نالوا ثقة بن علي، عبدالعزيز بن ضياء وزير الدولة والمستشار الخاص للرئاسة والناطق الرسمي باسمها. هذا الرجل الذي بدأ حياته السياسية في عهد بورقيبة، قدّم خدمات لا تحصى للرئيس «السابق» بن علي. وهو الذي أشرف على إعادة النظر في الدستور عام ‬2002 للتشريع لقيام الدكتاتورية. وليس فقط عبر منح الرئيس سلطات مفرطة، ولكن أيضا بإمكانه بقائه رئيساً مدى الحياة.

وبن ضياء هو الذي قام بعد عامين بتنسيق الحملة الانتخابية لبن علي، وهو الذي كان وراء الاقتراع على القانون الصادر بتاريخ ‬25 سبتمبر ‬2005 الذي منح امتيازات هائلة لـ «رؤساء الجمهورية بعد نهاية القيام بمهام منصبهم» ولعائلتهم بحالة الوفاة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الاقتراع على ذلك القانون تمّ في فترة كانت تسري فيها الشائعات المنذرة بالخطر حول صحّة الرئيس، وبالتالي كان المقصود منه حماية ليلى وأبنائها في حال رحيل الرئيس.

وكان بن ضياء هو الذي أشرف على مساعدة ليلى الطرابلسي في دراستها «بالمراسلة» لنيل شهادة عليا بالقانون الدولي من جامعة تولوز الفرنسية عام ‬2006. وهو أيضا الذي كان منتدبا لصقل صخر المطيري، صهر الأسرة الرئاسية المفضّل، سياسيا في منظور إمكانية أن يخلف الرئيس ذات يوم.

وكان الرئيس التونسي «السابق» بن علي قد شكر عبدالعزيز بن ضياء ببقائه خمس سنوات وزيراً للدفاع ثمّ أميناً عاماً للتجمع الدستوري الديمقراطي سنوات عديدة، حيث قام بما شاء من تعيينات على هواه. لكن بن ضياء تراجع عن مقدمة المسرح السياسي لظروف صحيّة.

إن تراجع بن ضياء خدم مصلحة «غريمه التاريخي» عبدالوهاب عبدالله، وزير الخارجية المقرّب من ليلى الطرابلسي، والذي اصبح عام ‬2009 الرجل القوي في قرطاج. وبعد أن كان يتطلّع لمنصب رئيس الوزراء، أصبح يرى نفسه خلفاً لبن علي رغم «الفجوات» التي عرفها مساره السياسي.

تولّى عبدالوهاب عبدالله وزارة الإعلام عام ‬1987، قبل أن يتم «نفيه» لأسباب غامضة كسفير في لندن. تتم الإشارة هنا إلى رواية جرى تداولها في تونس ومفادها أن بن علي أبعده إلى لندن فترة من الزمن بقصد حمايته من المخلصين لبورقيبة. ذلك أن عبدالله الذي كان مقرّباً جداً من «المجاهد الأكبر»، وهو الذي أبلغ بن علي عام ‬1987، عندما كان رئيسا للوزراء، أن بورقيبة سوف يعزله من منصبه قريبا بعد مشادّة قامت بينهما عندما اكتشف بورقيبة أن بن علي لا يحمل الشهادة الثانوية، فوجّه له الشتيمة قائلا : «أنت جنرال جمار».

بالإضافة للرجلين السابقين اعتمد الثنائي الرئاسي زين الدين بن علي وليلى الطرابلسي على عدد من المستشارين غير المعروفين كثيرا للجمهور العريض. ومن بين هؤلاء ضباط أمن وأطباء وغيرهم. ما يؤكّده المؤلفان هو أنه ما كان للرئيس التونسي السابق وزوجته أن يبقيا كل تلك السنوات في السلطة من دون توافّر جهاز أمني، يقمع أي تحرّك للمجتمع المدني ويواجه المؤامرات التي حيكت خاصّة داخل النظام. وليس صدفة أن وزارة الداخلية كانت باستمرار ذات أهميّة استثنائية بالنسبة لقصر قرطاج.

السيد الأخ

كان بلحسن طرابلسي نكرة لا يعرفه أحد قبل زواج أخته ليلى من زين العابدين بن علي عام ‬1992. وبعد نيله الشهادة الثانوية ذهب للدراسة في الجزائر، حيث التحق بالمدرسة الوطنية لهندسة البناء في الجزائر العاصمة. في عام ‬1986 أسس مشروعا ظلّ متواضعا في مجال البناء وتجارة مواده. لكن كلّ شيء تبدّل تماما بعد سنوات.

بعد ‬17 عاما من زواج أخته من الرئيس، أصبح اسم بلحسن طرابلسي مرادفا لـ «النجاة من العقاب»، واشتهر لدى كثيرين بلقب «السيد الأخ». وكان دائماً على درجة عالية من التفاهم مع أخته ليلى، بحيث أصبح بمثابة «الكابتن» في عائلة الطرابلسي، وخاصّة «ذراعها» المالية. الهدف الأوّل الذي حددته عائلة الطرابلسي تمثّل في إزاحة العائلات الأخرى التي كانت تسيطر على الصفقات في قرطاج في مطلع عقد التسعينات الماضي، مثل عائلتي مبروك وشيبوب.

في ظل تنامي قوّة ليلى وبلحسن، أصبح شعار نظام بن علي تدريجيا هو أن «السلطة السياسية تأخذ شرعيتها من قاعدتها الاقتصادية». وبدا بوضوح أن عائلة الطرابلسي مستعدة للقيام بعملية سطو للسيطرة على مقدرات البلاد. كانت الخطوة الأولى هي الاستيلاء على الأراضي المصنّفة كتراث تاريخي تونسي أو كأراض زراعية. وبعد أن تمّ إعلانها بفضل تدخّل عائلة الطرابسي أنها أراض قابلة للبناء، جرى بيعها من جديد بأسعار خيالية. وهكذا تحوّلت مناطق عديدة في البلاد إلى مجمّعات سكنية أو تجارية. وذلك عبر آليات ملتوية أشرف عليها خاصّة بلحسن طرابلسي عبر شركاء خدموا ـ «واجهات».

المؤلفان يضربان العديد من الأمثلة على السطو العقاري، الذي كان بلحسن هو عرّابه الأساسي. من بين هذه الأمثلة الحصول على توقيع بن علي للاستيلاء على إحدى جواهر التراث التونسي، أي القصر الرئاسي في مدينة موناستير. ففي بداية سنوات التسعينات، حاول الملك المغربي الراحل الحسن الثاني، أثناء قمّة لبلدان المغرب في تونس، شراء القصر لوضعه تحت تصرّف الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، الذي كانت قد تمّت تنحيته عن السلطة، ذلك كي يمضي بقية أيام حياته بهدوء وكرامة. العملية لم تتم، بل قام بن علي بنزع الصفة التراثية عن حديقة القصر التي جرى تقسيمها إلى قطع تتراوح مساحتها بين ‬500 إلى ‬600 متر مربّع أُقيمت عليها «فيللات» فاخرة.

تخصص عجيب

وإذا كان بلحسن وشقيقته ليلى قد تخصصا في الاستيلاء على الأراضي التابعة للدولة خلال سنوات التسعينات والنصف الأول من سنوات الـ ‬2000، فإن «السيّد الأخ» وضع يده على عدد من الشركات الصغيرة التابعة لآخرين من خلال اللجوء إلى آليات تنتمي بالأحرى إلى عالم المافيا.

ويقدّم المؤلفان بالاعتماد على مصادر تونسية مطّلعة أمثلة كثيرة تشهد على ذلك. هكذا مثلا كان من سوء حظ أحد مؤسسي جامعة خاصة أنه سافر على متن طائرة للخطوط الجوية التونسية كان على متنها أيضا بلحسن الطرابلسي. وقد خطرت للرجل فكرة طلب مساعدة بلحسن للحصول على قطعة أرض لبناء الجامعة. لقد استدعته بعد أيام قليلة هيئة عقارية للسكن وأبلغته أنه تمّ منحه قطعة أرض مساحتها أربعة هكتارات، لكن باسم بلحسن الطرابلسي. سلسلة الأمثلة على مثل هذه الممارسات وعقوبة من يعترض عليها، ولو كان يحمل صفة وزير، مثل وزير النقل الأسبق صادق رباح، طويلة جدا.

ويشير المؤلفان إلى أن شائعة قوية سرت قبل الانتخابات الرئاسية التونسية لعام ‬2004 مفادها أن ليلى رسمت خطّة تجعل من بن علي أسير عاج فضّياً بحيث تحكم مكانه في ظل قصر قرطاج. وقد اعتمدت في خطتها على شخص رأت فيه الرجل الذي يمتلك جميع المؤهلات لاحتلال مكان بن علي على رأس الدولة عندما تأتي الفرصة المناسبة. هذا الرجل هو هادي جيلاني رئيس أرباب العمل التونسيين. وإذا كانت قد فكّرت بتعيينه رئيسا للوزراء منذ عام ‬2004 بحيث يكون في موقع أقوى للقيام بالمهمّة الرئاسية في حالة وفاة أو عجز بن علي عن الحكم، فإن شائعة قويّة ترددت مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام ‬2009 أن ليلى الطرابلسي تطمح بتولّي جيلاني رئاسة مجلس النوّاب «البرلمان» بحيث يقوم، حسب الدستور، بتسيير أمور الدولة مدّة أقصاها ‬60 يوما في حالة شغور المنصب الرئاسي نهائيا.

على الصعيد المالي أعطى التحالف بين بلحسن الطرابلسي وهادي جيلاني الثمار المرجوّة منه سريعا. وإذا كان الرجلان قد قاما بعمليات مشتركة جلبت لهما ملايين الدنانير، فإن بلحسن الطرابلسي قام بعدة عمليات لحسابه الخاص، ليس أقلّها بروزا تأسيسه لشركة «قرطاج للطيران» عام ‬2001 التي أقلعت أولى طائراتها في شهر أغسطس ـ آب من عام ‬2002. وفي عام ‬2008 توحّدت شركة «قرطاج للطيران» مع منافستها «نوفيل للطيران» بحيث تولّى بلحسن الطرابلسي منصب الرئيس والمدير العام للشركة الموحّدة.

وفي عام ‬2009 غداً بلحسن الطرابلسي، الرجل القوي في العائلة، مالكاً لمئات الملايين. . وعمره ‬46 عاماً.

0 تعليقات:

إرسال تعليق