إسماعيل دبارة
- تونس - تردّدت كثيرا قبل أن أقرّر الكتابة حول الثورة التونسيّة التي هزّت كيان المنطقة هزّا ورجّته رجّا بشكل يصعب من بعده التنبّؤ بما يمكن أن يحصل في تونس ذاتها أو في بقيّة الأقطار المجاورة.
التردّد عائد إلى أمرين أساسين، الأوّل عامل المفاجأة، فلا أنكر أنّ ثورة شباب تونس العظيم باغتتني كما باغتت غيري من المحللين والمتابعين والسياسيين والخبراء وفي أقصى الحالات لم نكن نتوقع هذه النتيجة لانتفاضة سيدي بوزيد رغم أنّ منطق الأشياء كان يكرّر وينبّه ويحاور العقلاء منذ زمن قائلا: تونس على "كفّ عفريت" يا قوم!
الأمر الثاني بلا شكّ هو عدم وضوح الصورة، فرغم إطناب المحللين العرب والتونسيين (ممّن تفطنوا أخيرا أن البلاد كانت ترزح تحت الاستبداد وهم من سطّروا المقالات ودبّجوا الصحف لإبداء الإعجاب فيما كان يسمى سابقا المعجزة التونسية) في الكتابة عن الثورة والثوار وإسقاط الطاغية، فإنّ القاسم المشترك بين كثيرين هو افتقادهم للتفاصيل وبعدهم عن حقيقة ما جرى قبيل الرابع عشر من يناير الماضي والأيام التي تلته.
لسنا هنا في وارد التعليق على تلك الأحداث، بل سنتعدّاها لمقاربة الشأن التونسيّ من زاوية أخرى يغفل عنها كثيرون برأينا.
ولكن لا مناص هنا من لفت الانتباه إلى الكتاب والمستكتبين بأنّ التعليق على ما جرى في تونس خلال يناير/ جانفي الماضي يتجاوز التحليل من منظور أوحد وحيد وضيّق وهذا ما لاحظه كثيرون، فعوامل والثورة ومسبّباتها متعددة منها ما يرتبط بالتونسيين ووعيهم السياسي والاجتماعيّ والثقافي ومنها ما يرتبط بوضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، ومنها ما يرتبط بأجهزة النظام ومؤسساته الأمنية ذاتها، ومنها ما يتعلق بالعامل الدوليّ والخارجيّ.
وكلما سقط عامل من العوامل المذكورة إلا وتهاوى التحليل وضعُف وانفرط عقده، وتحوّل إلى تسطير لعبارات المساندة وتسجيل لموقف باهت لا أكثر ولا أقلّ.
تونس اليوم على مفترق طرق، تحرك شعبها الأبيّ على اختلافاته وتفاوت أوضاعه، وتوحّد على كلمة سواء، كررتها الحناجر بلا ممل "بن علي ارحل"، وقد تحقّق للشعب التونسيّ ذلك، ورحل بن علي، كيف رحل؟ تحت ضغط الشارع أم تحت مؤامرة من مقرّبيه ومسؤوليه الأمنيين أم بتحذير من الجيش أم بمناشدة خارجية ورفع للغطاء عنه، أم أن تلك السيناريوهات أو جميعها اجتمعت فرحل؟
وحدها الأيام ستجيب ولا يمكن لأيّ كان أن يجزم بحقيقة ما حصل ليلة 14 يناير، فذلك هو الموضوع الذي تتستر عليه الحكومة الحالية بشكل يبدو لي متوقعا وطبيعيا.
قلنا إن تونس على مفترق طرق أو هي تبدو كذلك، دعونا نقترب أكثر لنفهم الحكاية، فوصول التونسيين إلى مفترق طريقهم لم يكن سهلا، فأول عقبة كان شراسة النظام في مجابهة الهبة الشعبية التي أطلق شرارتها الشهيد محمد البوعزيزي وإن كان وقودها في المستودع منذ سنوات التسعينات، فالوضع لا يشي بغير الانفجار واللهيب.
العقبة الثانية كانت نصب الأسلاك الشائكة في مفترق طريق التونسيين، وتحديدا منذ هروب الطاغية إلى جزيرة العرب تاركا إرثا ثقيلا من الفساد والاستبداد ودولة على شفا الانهيار وسيذكر التاريخ له ولـ"ليلاه" ودستته ذلك "الانجاز".
راهنت قوى الردة من أتباع الرئيس المخلوع على الفلتان الأمنيّ في الساعات الأولى، فعربدت في الشوارع ونهبت الممتلكات ونشرت القناصة على أسطح المنازل والبنايات فسقط المزيد من الشهداء من المدنين وقوات الجيش الوطنيّ، لكن إرادة الشعب تفوّقت وسحقت هذا التحدّي رغم أنّ شبح الفلتان الأمنيّ لازال مخيّما مع وجود جهاز أمني ومخابراتيّ غارق في الفساد والجرائم حتى النخاع، يرفض الانضباط، ويخشى فقدان مكاسبه، والكل يعلم في تونس وخارجها أنّ وزارة الداخلية كانت السلطة الأقوى والأكثر بطشا في عهد المخلوع، ومن العسير على من تربى على البطش والتنكيل وفعل ما يريد بلا رقابة أو محاسبة أو جزاء، أن يسلم أمره لثورة تريد أن تقطع مع الماضي.
ابتلي التونسيون كذلك بفراغ سياسيّ رهيب عندما هرب الطاغية، فراغ متوقّع هو الآخر نظرا للسياقات التي جرت فيها الثورة، والقائمة على عفوية الهبة وعدم بروز قيادات كبرى تأطر تحركاتها، مع فشل المعارضات في اقتناص اللحظة الملائمة وتصدّر مسيرة الحرية والكرامة والتغيير، مقابل الدور المتنامي لوسائل الاتصال الحديث التي قطعت مع العمل التقليدي في القيادة والتنسيق والتحرّك.
اقتنصت رموز العهد البائد ذلك الفراغ الذي تتحمّل مسؤوليته المعارضات أولا وأخيرا ومع كثير من الاحترام، لا نقول إنها معارضات لم تناضل ضدّ الفاشية التي كانت قائمة، بل نزعم أنها ناضلت بطرية خاطئة تماما، لا تنتمي لروح العصر، تسبّق الإيديولوجي على السياسيّ وترفض الالتحام بمشاغل الشعب وتحديدا الشباب، وتحرص على استعمال آليات قديمة تجاوزها الزمن، لذلك كانت تضحيات المعارضة في تونس مؤلمة وقاسية نتيجة البطش الذي تعرضت له، لكن النتائج كانت دون المأمول.
فمع هروب بن علي وإعلان التونسيين نجاح الثورة، تابع العالم بانشغال واهتمام ما يجري متوقعا أن يكون السيناريو التونسي شبيها بسيناريو ثورات أخرى شهدها العالم، ومن ذلك بروز حكومة إنقاذ وطني أو مجلس تأسيسيّ أو تقدّم شخصية بارزة لتولي مقاليد السلطة وتحظى بالمصداقية لدى العامة، أو تزكية المتظاهرين لمن يفاوض نيابة عنهم مؤقتا أو حتى تدخل الجيش لملأ الفراغ، لكن لم يحصل من كل ذلك شيء وهو ما يحيّر المراقبين إلى يوم الناس هذا: كيف لثورة عظيمة كالتي عاشتها تونس أن تسلم مصيرها إلى رموز العهد الذي من المفروض أنها قامت لسحقه والقطع معه، وها نحن اليوم أمام ثورة أطاحت برأس النظام وحافظت على النظام ذاته مع تغييرات طفيفة.
تشكلت إذا حكومة ضعيفة، شارك فيها معارضون صادقون دفعوا نتيجة صدقهم الكثير والكثير في عهد زين العابدين بدعوى تجنّب الدخول بالبلاد في مرحلة "اللاّعودة" وإدخالها في المجهول، على اعتبار أن المرحلة الانتقالية حساسة للغاية وان تونس لا تحتمل ذلك التغيير "الطفروي" والجذريّ الذي سيؤدي للفلتان وربما انهيار الدولة... رأي قد لا نتفق كثيرا معه، فالفاصل بين الخشية على مصلحة البلاد والعمل على تعطيل مسار التحرّر خيط رفيع دقيق وعلى هؤلاء أن ينتبهوا كثيرا.
ربما يسعى السّيد محمد الغنوشي فعلا إلى الخروج بتونس من فوهة البركان نحو برّ الأمان كما يعتقد كثيرون، وربما تكون الدموع التي ذرفها صادقة، ولكن هذا لا يعفي السيّد المحترم من اتهامات نسوقها بلا تحفظ، فهو إن لم يكن بحسب كثيرين من رموز الفساد وإن كان فعلا نظيفا اليد، فنحن نجزم بأنه رمز للفساد السياسيّ حتى إن نجا من تهمة الفساد الماليّ.
كان الرجل رفيق درب الطاغية، منحه ثقته في أكثر من مناسبة، ووضعه على رأس الحكومات الفاشلة والمتعاقبة التي أبدعت في التنكيل بالتونسيين والضحك على ذقونهم، ولم يسجل التاريخ كلمة حقّ للسيد الغنوشي عن كمّ الجرائم التي ارتكبت خلال وجوده في السلطة ولا كلمة حق حول التزييف والكذب والبهتان، فكان كغيره من رموز النظام وقيادات حزب التجمّع الذي أعلن بالأمس حله وتجميد نشاطه، مطيعا وفيا منخرطا في الفساد السياسي والاستبداد حتى أذنيه، بل ومدافعا عنه ومنظرا له.
قد لا يعني هذا أن الرأي القائل بالزحف نحو مقرّ الحكومة بالقصبة وإسقاط الغنوشي هو رأي سديد، فالشعب ونخبه فوتوا فرصة "كنس" العهد البائد يوم كان التونسيون في الشارع متحفزين لاسترداد حقوقهم.
هنالك قناعة لدى التونسيين اليوم تكشف وعيا بخطورة المرحلة، تلك القناعة ربما هي التي تأجل الإطاحة بالحكومة الضعيفة الحالية، التي ارتكبت أخطاء لا تغتفر خصوصا عندما استفزت مشاعر الثائرين وعوائل الشهداء وعينت محافظين من حزب "التجمع" محل المحافظين (الولاة) السابقين، ناهيك عن تلكؤها في إيجاد حلّ لمعضلة الحزب الحاكم الذي تهتف الجماهير بإسقاطه وحله، علاوة على التصرف الأمنويّ الرديء الذي طبع سلوكها تجاه المحتجين في القصبة، وضبابية إجراءاتها ونواياها.
وزادت فوضى الإعلام الرديء والردّاح من تفاقم الإشكال، بل لعلّ قوى الردة التي تريد إنهاك الثورة وإفشالها هي التي تقف خلف تلك الفوضى، إذ ضرب الإعلام التونسيّ الرسميّ المثال في الغوغائيّة و"الهجائية" والاستخفاف بعقول الثائرين.
فمرتزقة الأمس ومُطبّلو العهد البائد ومُزمّروه تحولوا بقدرة قادرة إلى ثوّار أشاوس لا يشقّ لهم غبار، انقلبوا على أعقابهم دون تجشم عناء الاعتذار للشعب التونسي عن 23 سنة من تزييف الحقائق والكذب والتزوير.
ولكن ما بالطبع لا يتغيّر وسلوك الإعلام الردّاح ظلّ على حاله البائس، فمن هجا المعارضة بالأمس القريب ووصف المناضلات بالمومسات، ووصف المناضلين بالشواذ، انبرى اليوم يهتك ويهجو وليّ نعمته السابق، في وقت لم يعد فيه لذلك الهتك والهجاء أيّ معنى، فانكشفت أزمة الإعلام الحقيقية وهي أزمة مهنيّة لا يبدو أنها ستحلّ اليوم أو غدا على اعتبار أن الحكومة المؤقتة لا تحمل برنامجا واضحا وأولويات مضبوطة، فهي تتلكأ في تغيير الطاقم الرديء المسيطر منذ عقود على مفاصل الإعلام وتتجنّب محاربة الدخلاء على المهنة وملاحقتهم بلا هوادة.
إلى ذلك، يستسهل البعض اتهام محمد الغنوشي بالسعي لإعادة حزب التجمع للحكم، ربما مخاوفهم مشروعة لكن يخفى عن كثيرين أنّ أخطبوط الفساد هو الذي يطعن هذه الحكومة التي تضل حكومة مؤقتة رغم كل ما قيل ويقال من حولها ووجودها الآن ليس لأنها الأجدر بل لأن المرحلة لا تحتمل.
فرغم كل ما قيل حول "العصابة" التي كانت تحكم تونس (ومصطلح العصابة أطلقه حلفاء بن علي من الأميركيين على طريقته إدارته للدولة والجماعة التي كانت تحيط به) لم يكن أيا كان يتوقع أن الفساد بلغ ذلك الحدّ المذهل، وكانت الصدمة الحقيقية والمؤسفة التي جعلتنا نتيقّن أن تونس حُكمت من قبل أناس من المفروض أنهم لا ينتمون إلينا، بل ينتمون إلى "العالم السفلي" حيث تجّار الحشيش وقطاع الطرق و(الحراميه) ومُمارسو السلب والنهب وقطع الأرزاق و(البراكاج).
اجزم أن الذين يعيقون انتقال تونس من المرحلة الانتقالية نحو المرحلة الديمقراطية والتعددية اليوم هم الباحثون عن طوق النجاة، من فلول المتعصبين لحزب التجمع والقيادات الأمنية الفاسدة ومعظمهم يرغب في كسب الوقت لا غير لطمس معالم جرائمه، في حين يسيطر وهم على آخرين ممن يعتقدون أن إمكانية الحفاظ على امتيازاتهم السابقة مازال ممكنا في ظلّ حكومة يقال إنها مدعومة من الغرب ويترأسها رمز من رموز نظام زين العابدين بن علي، وحتى هذا السلوك الأرعن لا ينمّ عن شيء بقدر ما ينمّ عن اقتناع هؤلاء العابثين بمستقبل تونس أنّ ساعة الحساب باتت اقرب من حبل الوريد وأن المجرمين والفاسدين سيحاسبون ويعاقبون.
من خلال ما تقدّم، سيكتشف كثيرون خطورة الوضع التونسي الحالي الذي يسوقه الإعلام الدولي بطريقة خاطئة، فتونس التي تحتفل بنجاح الثورة، هي نفسها تونس التي تخشى على مستقبل ثورتها، وتونس التي أطاحت بالطاغية هي نفسها تونس التي تحترز من عودته بثوب جديد أو تحت يافطة مزورة.
وكأنه كتب علينا أن نهدر المزيد من الوقت قبل أن نخوض معركتنا الحقيقية... أم المعارك.. وهي معركة التنمية وشطب اسم تونس من سجل الدول المتخلفة أو النامية واللحاق بكرب الحضارة والتطوّر والازدهار.
فأجدادنا الذين استشهدوا لدحر الاستعمار الفرنسيّ سلموا تونس إلى آبائنا الذي سلموها بدورهم إلى استبداد لا يرحم، فحرمنا من خمسين سنة كان من المفروض ألا تهدر في النضال ضد الاستبداد بل في النضال من أجل التنمية وتحقيق كرامة التونسي على أرض وطنه، وهنالك اليوم مخاوف من أن يسلم هذا الجيل الشاب الذي كان عماد الثورة لأحلامه إلى طبقة من السياسيين الفاشلين ممن سيعودون بنا إلى المربع الأول فنهدر المزيد من الوقت والجهد والدماء.
وكأنه كتب علينا أو على كثيرين منا أن نهدر المزيد والمزيد من الوقت في محاربة حكومة تفتقر للشعبية، أو إضاعة فرصة تحقيق ديمقراطية تستوعب الجميع بسبب المراهقة الإيديولوجية التي والهرطقات التي يتحلى بها بعض السياسيين ممن لا يرون أن التحدّي الأكبر لتونس بعد الثورة هو تحدي التنمية التي تعيقها مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وتعليمية وصحية وبيئية ومناخية لا تحصى ولا تعدّ.
سقوط الطاغية ومحاسبة الفاسدين والانتقال إلى المرحلة الديمقراطية الحقيقية – رغم أهميتها – لا تتعدى كونها الخطوة الأولى نحو بناء تونس الجديدة التي يتربّص بها الأعداء في الداخل والخارج، وعلى التونسيين أن يفهموا ذلك.
0 تعليقات:
إرسال تعليق