عبد الباري عطوان
نعترف بأننا نشعر بالقلق والخوف على الثورة التي فجرها الشباب المصري للاطاحة بنظام ديكتاتوري بوليسي متعجرف، واعادة مصر الى دورها الريادي في المنطقة والعالم بأسره. مبعث هذا القلق نابع من تعاظم محاولات داخلية وخارجية، لوأد هذه الثورة، وتفريغها من محتواها، وتجييرها لحسابات قوى كان دورها ثانويا، او محدودا فيها.
نظام الرئيس مبارك استطاع ان يحقق في اليومين الماضيين عدة انجازات ادت الى التقاط انفاسه، وكسب بعض الوقت لتثبيت بعض اركانه وامتصاص جانب لا بأس به من الاحتقان الشعبي الرافض لوجوده، رغم ان هذا النظام لم يقدم اي اعتذار للشعب، واعترافاته بالاخطاء جاءت سطحية، ونجح في استعادة الامساك ببعض مفاصل الحكم كان قد خسرها امام زخم الاحتجاجات.
انجازات النظام يمكن اختصارها بمجموعة من النقاط الرئيسية:
الاولى: تخلي الاخوان المسلمين عن شروطهم السابقة بعدم الحوار مع النظام الا بعد رحيل الرئيس حسني مبارك، وجلوسهم الى طاولة المفاوضات، الى جانب آخرين، مع اللواء عمر سليمان وقبولهم، مع بعض التحفظات ببيان ختامي للاجتماع يتبنى كل ما ورد في الخطاب الاخير للرئيس مبارك حول التعديلات الدستورية، ولا يتضمن اي ذكر لرحيله.
الثانية: إحداث شرخ يتسع يوما بعد يوم، بين جبهة المعارضة وقــــيادة الشـــباب المتظاهر انفسهم، فقد لوحظ ان مجموعة ادعت تمثيل هؤلاء شاركت في الحوار مع نائب الرئيس.
الثالثة: طرح الثورة العفوية الشبابية على مسرح التحكيم، وافساح المجال لـ'الوسطاء'، فقد شاهدنا تكرار مقولة 'الحكماء' وتعدد لجانهم، وانضمام او تسمية شخصيات في عضويتها، لم يكن لهم اي تاريخ وطني، بل ان بعضهم خدم جميع العصور، وتقلب في مناصب حكومية ابتداء من عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ومرورا بعهد محمد انور السادات، وانتهاء بعهد الرئيس حسني مبارك، ويسنون اسنانهم لتبوؤ مناصب قيادية في العهد الجديد. القول بان هناك لجانا للحكماء يوحي بان مفجري هذه الثورة هم من 'المجانين' او 'القصّر' ويحتاجون الى من يعقّلهم او يتفاوض باسمهم.
الشباب المصري لم يفجر ثورته، ويخرج بالملايين الى شوارع القاهرة والاسكندرية والسويس وباقي المدن المصرية من اجل تعديلات دستورية، او تنصيب اللواء عمر سليمان رئيسا، وانما من اجل اطاحة نظام واسقاط عهد فاسد قمعي، وازالته من جذوره، وتقديم كل الفاسدين والبلطجية فيه الى العدالة.
نظام حكم الرئيس مبارك انتهك حقوق الانسان، ومارس التعذيب، وصادر الحريات، ونهب ثروات البلاد، وجوّع اكثر من اربعين مليون مصري، واهان كرامة اربعين مليونا آخرين، والتفاوض معه هو اعتراف باستمرار شرعيته، وتضحية بدماء الشهداء.
' ' '
من الواضح ان التصريحات التي ادلى بها فرانك وايزنر المبعوث الامريكي الى مصر التي قال فيها ان الرئيس مبارك يجب ان يستمر في الحكم حتى اجراء التعديلات الدستورية المطلوبة قد احدثت انقلابا في الموازين السياسية، ورجحت كفة النظام، واثبتت عمليا ان مطالبة الرئيس الامريكي باراك اوباما بالتغيير الفوري كانت مجرد 'مسرحية' مكشوفة، هدفها تحسين وجه امريكا، والادعاء بان البيت الابيض لا يساند الدكتاتور.
الجيش المصري مارس دورا مخادعا ايضا عندما ادعى حيادا لم يثبت عمليا على الارض، ولم يقم بواجبه في الاستجابة لمطالب الشعب في خلع الدكتاتور، اسوة بزملائه في تونس، وهناك مؤشرات انه بدأ ينقلب على الثورة تحت مسمى حفظ النظام والاستقرار، فمنعه للمتظاهرين من الوصول الى ميدان التحرير تحت ذريعة تسهيل حركة السير يصب في هذه النتيجة، والايحاء بان الحياة بدأت تعود الى مجراها الطبيعي في البلاد.
الثورة الشبابية لم تعكر صفو الحياة الطبيعية في مصر، بل كانت ثورة منضبطة من اجل استقرار حقيقي ودائم في البلاد، من اسس للفوضى وتعطيل سبل الحياة هو النظام الذي رفض الرحيل استجابة لرغبات الشعب، ولو كان الرئيس مبارك فعل ما فعله الرئيس زين العابدين بن علي رحمة بمصر، وحرصاً على أمنها واستقرارها، لهدأت هذه الثورة وعادت الحياة الى طبيعتها قبل اسبوع على الاقل.
نستغرب التراجع المفاجئ لحركة الاخوان المسلمين عن شروطها المحقة والشرعية، في ضرورة سقوط النظام، مثلما نشعر بالحزن لجلوسها مع اخطر شخص في هذا النظام والتفاوض معه لاطالة عمر نظامه تحت ذرائع لم تكن مطلقاً على رأس مطالب الثوار، وهي اجراء تعديلات دستورية في ظل استمرار الرئيس في موقعه حتى نهاية مدة رئاسته.
الاسلاميون اشترطوا التفاوض مع الجيش وقيادته فقط، ليس من اجل تطبيق الاصلاحات او التعديلات الدستورية، وانما تأمين خروج النظام وجميع اركانه، فكيف وقعوا في مصيدته، اي النظام واسقطوا مطالبهم جميعاً، قبل اسقاط الرئيس وحكمه.
هل هي البراغماتية السياسية في الوقت الخطأ، ام انها محاولة لانتزاع شرعية من نظام فاقد الشرعية.. ام هي خطوة للحصول على اعتراف امريكي.. ام انها محاكاة لنموذج حزب 'العدالة والتنمية' في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان؟
' ' '
لا بد ان هناك اتصالات في الكواليس لا نعرفها، والا ما معنى مسارعة السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية للترحيب بمشاركة الاخوان المسلمين في الحوار مع اللواء سليمان.. وهل يعقل ان الولايات المتحدة ستؤيد حكماً اسلامياً في مصر يلغي معاهدة كامب ديفيد ويؤيد المقاومة ضد اسرائيل؟
النظام المصري الذي يملك ثلاثين عاماً من الرصيد القمعي، وكيفية التلاعب بأوراق المعارضة، وتقسيم صفوفها، اعد 'مصيدة' خطيرة للثورة، ويبدو ان بعض فصائل المعارضة قد ابتلع الطعم وسهل للنظام مهمته في هذا الاطار.
نحن لسنا مع تجويع الشعب المصري، بل نحن ضد الذين جوعوا هذا الشعب، وجعلوا نصفه يعيش على اقل من دولارين في اليوم، وندرك جيداً حجم معاناة هذا الشعب في ظل تعطل الحياة العامة في البلاد، ولكن علينا ان نتذكر ان من سحب الشرطة، وفتح البلاد على مصراعيها امام اللصوص الرسميين الذين تخفوا بملابس مدنية هو النظام الذي يتفاوض معه ما يسمى بفصائل المعارضة المصرية.
لا يحتاج الاخوان المسلمون الى الذهاب الى طاولة الحوار مع اللواء سليمان حتى يتعرفوا على نوايا النظام مثلما قال احد المتحدثين باسمهم، فنوايا النظام واضحة للعيان، وهي كسر هذه الثورة، وتشتيت فعالياتها، وتمزيق اوصالها، وتثبيت النظام حتى يعاود الانقضاض على المتظاهرين والانتقام منهم.
ما زلنا نثق بشباب مصر وقدرتهم على التغيير، واطاحة نظام الطاغية وفي اسرع وقت ممكن، وما نتمناه عليهم ان ينفضوا ايديهم من كل 'الحكماء' و'الانتهازيين'، ورجال كل العصور، والمتطلعين لسرقة انجازهم العظيم وما اكثر هؤلاء.
0 تعليقات:
إرسال تعليق